من الخطاب الاستعماري إلى خطاب "ما بعد الاستعمار"


د. عاشور فني


هذه سلسلة من المقالات في موضوعات الخطاب وتحليله من وجهة النظر ما بعد الكولونيالية من منطلق نقد الخطاب ما بعد الكولونيالي وبالاستناد إلى النقد الموضوعاتي مع توظيف مفهوم وجهة النظر.

كان الاستعمار الغربي من أكثر الحركات الاستعمارية انتشارا عبر التاريخ ومن أكثرها تأثيرا في حياة البشر. فبحلول الثلاثيينيات من القرن العشرين كانت المستعمرات والمستعمرات السابقة تمثل 84.6 % من سطح الكرة الأرضية[1].
ورغم أن هناك العديد من الكتابات التي تناولت تلك الحقبة التي توسعت فيها الإمبراطوريات الغربية لتشمل العالم بأسره فقد كانت في معظمها كتابات تتناول الأحداث والوقائع المباشرة ولم تقدم نظرية متكاملة في الاستعمار. غير أن الكتابات اللاحقة للفترة الاستعمارية سعت إلى تأسيس ما اصطلح عليه ب"ما بعد الاستعمار" أو ما بعد الكولونيالية". وقد أصبح يمثل حقلا دراسيا واسعا يندرج صمن الدراسات الثقافية ( ) ويدخل في صلبه العديد من الاختصاصات مثل التاريخ والأنتروبولوجيا والنقد الأدبي وعلم النفس والاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة والنقد الثقافي.
من الخطاب الاستعماري إلى خطاب "ما بعد الاستعمار"
 لقد ساد الاستعمار الغربي فترة طويلة من الزمن استطاع خلالها إعادة تشكيل المجتمعات المستعمرة لتخدم تطور الدول الاستعمارية وتحويلها إلى مصادر لليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية  وإلى أسواق لتصريف منتجاته المصنعة.  إعادة تشكيل كانت ضرورية للتطور الرأسمالي الذي تمتعت به البلدان الاستعمارية.
وقد تأسس انطلاقا من تلك الوقائع التاريخية خطاب يؤسس للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية ويبررها ويفرضها على الشعوب والثقافات المغلوبة على أمرها. وقد بسط الاستعمار سيطرته على البلدان والشعوب المستعمرة وعزز سيطرته بآليات متعددة سياسية واقتصادية وإدارية وعسكرية ودعمها بخطابات متعددة تبرر الهيمنة وتجسدها في المجال الفكري والرمزي. واهم سمة للخطاب الاستعماري هو إبراز هيمنة السيد المستعمر الأوروبي الأبيض الغاصب الذي يقصي من خطابه أي حضور للمستعمر التابع المغتصب. إن خطاب الهيمنة الاستعماري هو امتداد للوضع الاستعماري في المجال الثقافي والأدبي.
(فالعديد من كتاب القرنين التاسع عشر والعشرين ساووا بين تطور الاستعمار الأوروبي وانتصار العلم والعقل على قوى الخرافة، والحق أن الكثير من الشعوب المستعمَرة تبنّت الرأي ذاته)[2].
يجدر بنا هنا أن نلتفت إلى معنى الخطاب في هذا السياق. فالخطاب حسب ميشال فوكو هو "مجال كامل تستخدم في داخله اللغة بطرق محددة"[3]. وتمتد جذور هذا المجال في الممارسات الإنسانية والمؤسسات والسلوك. والممارسات الخطابية تجعل من الصعب على الناس التفكير خارجها. فالمعرفة ليست بريئة، حسب فوكو، بل ترتبط بعمليات السلطة.  فتحليل الخطاب يؤول في نهاية الأمر إلى تفكيك السلطة وكشف آلياتها. وهذا ما يرمي إلى القيام به خطاب "ما بعد الكولونيالية".
"وكما بيّن فوكو فإن دراسة الخطاب لا تقوم على ما قيل، إنما على ما لم يقل، ولماذا ؟ وهكذا نعثر على نسقين من الكتابة، كتابة المستعمِر التي تهدف إلى تصوير وتمثيل الآخر، ضمن استراتيجيات خطابية محددة، مقابل نسق آخر مناظر يقوم على فعل عكسي يكشف ويقاوم النسق السابق". " فإذا كان الغربي يختزل الشعوب الأخرى ضمن تحديدات وفئات وأحكام محددة، تقوم على التفسير العرقي والجنسي والثقافي، فإن ذلك دفع المهيمن عليه إلى أن ينشئ خطابا مضادا، يعمل على مستويين؛ الأول نقض ما قاله الآخر، والثاني الرد بالمقاومة، وضمن هذين المستويين يتحرك خطاب ما بعد الكولونيالية الأدبي"[4].

وقد بين إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق" أن هذا الخطاب الاستشراقي قد قام على التمييز بين "الأوروبيين" وغيرهم من الأمم  مستنتجا أن "المعرفة حول اللاأوروبيين قد كانت جزء من عملية السيطرة عليهم"[5].
لا ينحصر الخطاب الاستعماري في النصوص الأدبية بل يتجاوزها إلى كل أنواع الخطابات والوثائق المرتبطة بالظاهرة الاستعمارية مثل موضوعات الصحافة والسجلات والتقارير الحكومية والمذكرات والدوريات والكراسات التاريخية والكتابات السياسية فكلها مادة للتحليل والكشف عن استراتيجياتها البلاغية وأدوات السردية.فليست النصوص الأدبية فقط ذات فائدة في تحليل خطاب الإمبراطورية[6].



[1]  لومبا ( آنيا)، في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية،دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، اللاذقية، 2007، ص 9
[2] لومبا ،نفسه، ص 35
[3] لومبا، نفسه، ص 50
[4]  رامي أبو شهاب، خطاب ما بعد الكولونيالية،  الحوار المتمدن. انظر المقالة على الموقع: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=401500
[5]  لومبا، نفسه ً 56.
[6]  لومبا، نفسه. ص 89

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter