الصالون الدولي للكتاب : عودة المؤلف



الدكتور عاشور فني

الذين أرغموا الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على أن ينحني بقامة السيادة وهو يدخل قيطون* الكتاب ليدشن الطبعة الخامسة عشر من الصالون الدولي للكتاب(الجزائر 28 كتوبر -6نوفمبر2010) لم يكونوا يتوقعون هذا الأمر. لا شك أنه استنكف من أن يقطع عادة جميلة ألفها جمهور القراء منذ سنوات: أن يكون القارئ الأول قبل أن يكون القاضي الأول في البلاد. فبعدها بيوم واحد سيدشن السنة الجامعية في مدينة "ورقلة" جنوب الجزائر، ببناية جامعية فارهة تليق بمقام السيادة، وبعدها بيومين سيفتتح السنة القضائية في قصر يليق بالقاضي الأول. هل يليق هذا القيطون  المنصوب على طرف العاصمة بالقارئ الأول في البلاد؟  

لنتصور هذا القارئ الكريم وقد قرر الذهاب بنفسه  دون حراس أو أدلاء من المسؤولين المدججين بالإحصاءات والخرائط المنتقاة سلفا. لنتصوره وهو يقلب في ذهنه صورة الصالونات التي مر بها عبر هذا العالم، والعالم الذي سبقه: حين كان يجوب أصقاع الدنيا معززا بعز الجزائر مكرما بكرامة الشهداء ورائحة البارود. لنتصوره وهو يبحث في خارطة المدينة عن موقع الصالون. ثم لنتصوره وهو يبحث عن وسيلة نقل تقله إلى الصالون. لنتصوره وهو يبحث عن علامة تدله على المدخل الرئيسي. لنتصوره وهو يدخل ويبحث عن خارطة المعرض مع جموع القراء الكرام الواقفين أمام مكتب فقير يرد على الناس بتكشيرة واحدة:  خلاص، ما كانش. لنتصوره وهو يريد الجلوس للراحة واستنشاق الهواء بعد المرور على 20 دار نشر متراصة بعضها فوق بعض لا يجد فسحة لمرور الهواء. لنتصوره يحاول العثور على علبة عصير منعش. ثم لنتصوره أخيرا وهو يحاول الحديث إلى المشرف العام على هذا الصالون ليبدي له ملاحظة تبدو بديهية: سيدي؛ هذا ليس صالونا، هذا قيطون...

 سيجد نفسه خارج المعرض متهما بالتشويش وتسويد صورة البلاد وإفساد الفرح. سيجد نفسه مجبرا على الخروج لتناول عصير بارد. سيجد نفسه مجبرا على البحث عن بيت الراحة في قيطون مجاور خلف القيطون المجاور، وكأنه يختبئ للقيام بجريمة. سيجد نفسه في الريح يحاول أن يقف بقامة منتصبة وهو تحت الأثقال يبحث عن منفذ للخروج بين أسوار من الحواجز هي نفسها في حاجة إلى حراسة الشرطة. سينقطع نفسه وهو يجتاز الطريق السيار  بين رتلين من السيارات المجنونة. لم يكلف القائمون أنفسهم تهيئة جسر للعبور ولا موقف للحافلات ولا لسيارات الأجرة. يجب أن تمتلك سيارة كي تزور المعرض. وفي هذه الحالة يتعين عليك أن تقضي ساعة في الطريق وساعتين أمام المدخل لأن موقف السيارات غير كاف.

كل هذا نتيجة لعقيدة أرثودوكسية راسخة لدى سدنة الخزينة العمومية وسادة المال العام في الجزائر. كلما تعلق الأمر بالثقافة زاد الأمر ضيقا. لا يظهر التخوف المسبق من تبديد المال العام وتبذير ثروة الأمة إلا عندما يتعلق الأمر بالثقافة. التزمّت المالي أخطر أنواع التزمت على الإطلاق، خاصة عندما يشهر حفظة الخزينة العمومية أسبابهم المبتكرة في وجه الإنفاق العمومي ولو اقترحه عضو كامل العضوية في حكومة الأغلبية البرلمانية: الرشادة والترشيد والحكامة والحوكمة. وأخيرا الحكمانية. كل هذا الاجتهاد من أجل أن لا يضاف دينار واحد لميزانية تجهيز الثقافية. ربما كان لمصممي الميزانية حجة أخلاقية أيضا تظهر آثارها في بعض الأوساط : قد تؤدي كثرة الهياكل الثقافية إلى إفساد ذوق الجمهور الفطري بأنواع الثقافة الراقية، وإلى تعويده على الموسيقى الكلاسيكية والتظاهرات الثقافية الكبرى التي أفسدت أذواق الشباب في العالم المتقدم... ألا ترونهم يرقصون ويمرحون. ربما كنوا يرون الجلوس عند الحائط أجدى وأجدر بشباب الأمة. من أراد الرقص عليه أن يرمي بنفسه في البحر ليقطع إلى الضفة الأخرى. من أراد قراءة الروائع العالمية من شعر ورواية عليه أن يجلس في الحديقة العمومية تحت سماء أخرى غير سمائنا. من أراد  الاستماع إلى الموسيقى الراقية عليه الذهاب إلى فيينا. من اراد...

 بعد قرابة  50 سنة من الاستقلال لا تملك الجزائر العاصمة هياكل لتنظيم التظاهرات الثقافية والفنية الكبرى. بعض الهياكل الثقافة التي أنجزت في الجزائر بميزانية صادق عليها البرلمان ووقعها رئيس الجمهورية وأخذت كل الاحتياطات كيلا تصرف في غير الباب الذي رصدت له، هذه الهياكل استحوذت عليها مؤسسات لا علاقة لها بالثقافة دون وجه حق أليس ذلك خداعا للرئيس ولممثلي الشعب وتبذيرا للهياكل العمومية في غير ما بنيت من أجله؟ سمعت مترشحين للمناصب الانتخابية يتحدثون عنها أثناء حملاتهم الانتخابية لكنهم سكتوا بمجرد أن نالوا المنصب المعسول. (الثقافة أولوية في برنامج فخامة الرئيس)، أنشودة سمعناها أكثر من مرة ولم يعد يصدقها أحد. ألم تعد كلمة الرئيس بارودا "إذا خرج ما يرجعش" في حساب المسؤولين البيروقراطيين؟ أهي حجارة من سجيل؟ نعم. ما زالت السيدة خليدة  تومي وزيرة الثقافة الجزائرية، مضطرة لتكشر عن أظافرها في كل مرة كي تظفر بنصيب من الميزانية الموعودة لبناء هياكل جديدة. قد تستولي عليها هيئات أخرى بمجرد إنجازها وقد لا تجد من يسمع استغاثتها عندما تمر المناسبة الوحيدة المخصصة للثقافة خلال العام الطويل. أيام معدودات. الحج إلى صالون الكتاب مثل الحج إلى بيت الله الحرام. مرة في العمر تكفي.

كل هذا التقشف والتقتير من اجل أن تبقى الثقافة بعيدة عن الفساد؟  سيجد المثقفون الجزائريون أنفسهم مضطرين للمطالبة بنصيبهم من الفساد. تريدون الدليل؟

القيطون الذي جرت تحته فعاليات الصالون الإفريقي والصالون الدولي لكتاب الشباب والطفل والصالون الرابع عشر، هو نفسه الذي تجري تحته فعاليات الصالون الخامس عشر. أليس  في ذلك فساد؟ هذا التقشف المفرط  في مجال حيوي كالثقافة أدخلنا في زمرة الدول التي لا تحترم نفسها ولا تحترم رموز السيادة. منذ دولة القيطنة في عهد الأمير عبد القادر وهو يقارع جيوش الاحتلال لم تر الجزائر رموز السيادة يدخلون صفا طويلا في قيطون واحد إلا في صالون الكتاب. كل هذا البؤس والميزيرابيليزم الرسمي في زمن الوفرة النفطية والفضائح المالية الكبرى. وأتحداكم أن تجدوا تظاهرة واحدة جرت بمظاهر الفرح والبهجة تحت قيطون البؤس الرسمي هذا. ومع ذلك ينتفض الجزائريون لمن يعيرهم بضعف الثقافة في بلادهم. ألا ترون المجد الثقافي المؤثل وهو يرفل في الصالون؟ يا لبؤسكم.

الذين يفهمون الإشارات الدبلوماسية اللطيفة، فسروا كلمة الرئيس عن سوق الكتاب بأنها رأي في سياسة البؤس المفروضة على هذا القطاع. فهل يعقل أن يتحدث أحد عن سوق الكتاب في غياب صناعة الكتاب؟ المعنى المبطن إذن هو إشارته الخفية إلى ما يجري من طراباندو يغذيه المال العام باسم الثقافة. مؤسسات عمومية تنفق على المؤلفين والمترجمين الأجانب أضعاف ما تخصصه للمؤلفين والمترجمين الجزائريين. مسؤولون عموميون دخلوا على المباشر في لعبة التمثيل التجاري. جمعيات تستفيد من المال العام تحولت بقدرة قادر إلى شركات استيراد للكتاب الأجنبي تحت غطاء النشر المشترك. كل الظروف توفرت لهدم أية إمكانية لقيام صناعة كتاب وطنية في الأفق المنظور. ما الجديد إذن؟

الجديد هذه المرة أمر لم يتوقعه أحد.

الذين ضيقوا على الكتاب والثقافة ودأبوا على حذف أكثر ما تطلبه الوزيرة في ميزانية التجهيز الثقافي لم يتوقعوا الأمر. الذين خططوا لدعم الناشرين الذين يجهلون أسماء الكتاب الذين ينشرون كتبهم لم يتوقعوا هذا الأمر. الذين طبعوا الكتب طبعات رديئة ولم يعلنوا عنها لم يتوقعوا هذا الأمر. شخص غريب دخل هذا المعرض: إنه المؤلف.

عاد المؤلف إلى الكتاب وقد طرده أفلاطون شاعرا من جمهوريته وطرده الناقد البنيوي من النص وحذفه المنظم من قائمة المدعوين. عاد متسللا هذا المرة. من جاء به إذن؟ من سمح لهذا المشوش ال... بالدخول إلى الصالون النظيف؟ القارئ فعل ذلك. هو من أعاد المؤلف إلى مكانه الطبيعي في تظاهرة تتعلق بالكتاب: أي إلى الواجهة.

يحتل الكتاب واجهة المكتبات ويحتل المؤلف منصة أمامية في معرض الكتاب.  ومن أجل اصطياد القارئ هانت كل السبل بما فيها استضافة رتل من الكتاب متراصين مترادفين في مساحة ضيقة يجلسون كتفا إلى كتف ينظر بعضهم إلى بعض في حياء. قال قائلهم: ها نحن هنا... لم يحدث لنا هذا منذ زمن الأنبياء  والصالحين. كانوا يأتون إلى أممهم فرادى، وها نحن نأتي جماعة إلى أمة تتشكل من قارئ وحيد. كانوا يقاتلون من أجل تبليغ رسالتهم وها نحن نبيع بضاعة كاسدة.

وحين يتحدث المؤلفون عن القارئ تزداد الهواجس: هل تظن أنهم سيأتون في هذا الجو؟ هل يصلون إلى هذه الزاوية من الصالون؟ كم عددهم؟ قد يأتي قارئ أو اثنان. إذا بعت خمس نسخ من كتابي سأعتبر نفسي محظوظا. إنها فرصة واحدة في العام. قد يأتي وقد لا يأتي، أعني القارئ. لماذا نحن هنا إذن؟ لكي يرانا الزوار ونظهر على شاشة نشرة الثامنة. الناشر أراد ذلك. وإدارة الوزارة تدعمه. هذا جيد لصورة البلد في الخارج.

 القارئ الجزائري تعود على أن يقرأ للأشباح. أبطاله شهداء لا يتعرف عليه إلا بعد الوفاة ومؤلفوه أشباح لا يتعرف عليهم إلا منفيين طوعا أو كرها. إذا رآهم رأي العين سقطت خمسون في المائة من قيمتهم الرمزية. القارئ أيضا شبح آخر. فالمؤلفون أيضا لا يعرفون قراءهم. من اهتم من الناشرين بمعرفة القارئ وآرائه وتفضيلاته وميوله؟ والقارئ حقيقة مغيبة في ميزان السياسة الثقافية. هذا يناسب المسوقين الرديئين: كل ناشر يتحدث باسم القارئ الذي يريد فرضه في السوق. لا أحد يهتم بدراسة احتياجات السوق الحقيقية. تلك بداية أية سياسة للكتاب في أي بلد.

الناشر أيضا لا يعرف المؤلفين. لا يبحث عنهم ولا يصنعهم. يريدهم جاهزين: اكتشفهم الناشرون اللبنانيون أو صنعهم الناشرون الفرنسيون. قليلة هي دور النشر الجزائرية التي بحثت عن المؤلف ورافقته ولم تلتف عليه عند المنعطف إن لم تغمطه حقوقه الأساسية. وقليلة أكثر هي دور النشر التي التفتت، على غرار دور النشر الكبرى في العالم، إلى مجالات ثقافية غير تجارية، متوخية القيمة الثقافية والإبداعية للمنتوج الثقافي.

لست متشائما على الإطلاق. سوق في مثل حيوية سوق الجزائر قادرة على أن تتحول في ظرف قصير إلى قطب ثقافي إقليمي. حدث ذلك في قطاعات أخرى في ظرف قياسي. بعض دور نشر محترفة قليلة قادرة على النفاذ إلى القارئ والتكفل باحتياجاته بعيدا عن المظاهر الظرفية التي تغطي غابة الكتاب. تبرم دور النشر ذات التقاليد العريقة اتفاقيات مع المؤلف وتجدد فهارسها مع كل دخول ثقافي، بل تحتفظ بقائمة القراء المفضلين في كل بلد، وفي العالم. ترسل لهم مطبوعاتها هدايا، وتضيف إليها قائمة المنشورات للاطلاع. الشراء من أجل الإهداء يمثل ربع المبيعات في بلد مثل فرنسا. ألسنا في حاجة إلى الاقتداء؟

عودة إلى القارئ الأول في البلاد. من اهتم بما يقرأ أو فيم يفكر. ومن مؤلفوه المفضلون؟ وما الكتب التي قرأها. من فكر في أن يجمعه بمؤلفيه المفضلين؟ لن يحدث ذلك مادام الصالون ينظم  في القيطون على أية حال...


الدكتور عاشور فني
جامعة الجزائر الثالثة

* القيطون: خيمة للقراء في اللغة الشعبية الجزائرية

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

0 التعليقات:

إرسال تعليق