تحولات الفضاء العمومي



تحولات الفضاء العمومي

الفضاء العمومي فكرة طرحا الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في كتاب له صدر سنة 1962 لكنها مازالت تلقى  قبولا لدى الباحثين في شأن الإعلام والسياسة والرأي العام. وإن طرأت على الفكرة بعض التحولات الجوهرية. فالفضاء العمومي  هو فضاء للنقاش الحر والنقد العقلاني يسمح بإثارة القضايا العامة من طرف الأفراد ويسمح بأن يتحول الرأي الخاص في الشأن العام والنقد الشخصي إلى فكرة عامة تصل لعموم الناس. بدأ الفضاء العمومي في القرن الثامن عشر على شكل نواد وصالونات ومقاه ومنتديات خاصة يرتادها النخبة من البرجوازيين وأصحاب الأفكار المستنيرة لمناقشة القضايا العامة وإثارة المسائل السياسية  في إطار خاص وتحولت هذه الفضاءات العمومية إلى معادل لسلطة الدولة المطلقة. هكذا سمح الفضاء العمومي بوقوف النخبة في وجه الاستبداد المطلق قبل مجيء وسائل الإعلام الجماهيرية. حرية التجمع  والتجمهر في إطار الجمهورية تسمح للناس بالتداول الخاص في الشأن العام. هناك ظهر دور النخبة النقدي والفعال. كانت تلك بداية فكرة الفضاء العمومي. ثم توسعت الفكرة لتشمل التجمهر في  الساحات العمومية والتظاهر في الشوارع والتنديد العلني بالسلطة المستبدة.


لكن مجيء وسائل الإعلام الجماهيرية (خاصة الصحافة) أعطى للفضاء العمومي امتدادا جديدا مهما فصارت وسائل الإعلام تمارس الوظيفة النقدية التي بدأتها النوادي النخبوية. ومع بروز الإذاعة في العشرينيات من القرن العشرين ثم هيمنة  التلفزيون منذ أربعينيات القرن العشرين أضحى لوسائل الإعلام نفوذ جديد على وعي الجمهور وأصبحت وسائل الإعلام الجماهيرية أكثر فعالية.  
 غير أن وقوع وسائل الإعلام هذه تحت سيطرة المال والسلطة السياسية أفقدها القوة النقدية التي كان يمارسها الفضاء العمومي وأصبحت وسائل الإعلام تمارس التملق والتزلف وتعمل على تغييب الوعي وإفقاد النقد من أي محتوى عقلي باستعمال وسائل أصبحت معروفة الآن: الترفيه والإثارة والتحريض وتزييف الوعي وإغفال القضايا الحقيقية وصنع قضايا حسب الهدف المطلوب لشغل الجمهور وتوجيهه وتحريضه على الفعل أو منعه من الفعل وشغله بما يراد له. وهكذا لم يعد الفضاء العمومي قادرا على أداء الوظيفة النقدية التي نشأ من اجلها بل أصبح هذا الفضاء امتدادا للسلطات المهيمنة تصرفه حسب إستراتيجياتها:  سلطة المال والسلطة السياسية والسلطة الإيديولوجية من خلال إشاعة  أنماط محددة من الوعي تدفع الناس إلى الاستكانة وقبول القوالب الجاهزة في الوعي والتفكير وأنماط الحياة. 
بهذه الوسائل تم فرض منطق الأغلبية اللاواعية باعتباره النموذج الأعلى للفكر والحياة والوجود: ذلك أهم ما يتطلبه توسيع الأسواق في المجتمع الاستهلاكي: زيادة الاستهلاك وشيوع الترفيه باعتباره أيديولوجية الهيمنة. وتلعب الأنماط الترفيهية الجماهيرية الشائعة دور المقولب للوعي والتفكير:كرة القدم ومشاهدة التلفزيون أهم الأنماط. يجري العمل الآن على إشاعة أنماط أخرى لتواكب التحولات التكنولوجيا الجديدة حيث يصير امتلاك  وتكديس الوسائل بديلا عن استخدام العقل. أصبحت التكنولوجيا بمثابة إيديولوجية المستقبل.
انتهت الوظيفة الإعلامية التقليدية لوسائل الإعلام وطغت الوظيفة الاتصالية. هكذا تحول صناع المعرفة والمعلومات إلى صناع صورة ومنشئي علاقات هيمنة ومحرضين على السلوك الذي يتطلبه الوضع: التمسك بالوضع القائم لزيادة تملك الوسائل الجديدة: انتقال من عصر الفكر الفردي إلى عصر العاطفة الجماعية الجياشة ومن زمن الكلمة الواعية إلى الصورة المؤثرة المعطلة للعقل ومن زمن وسائل الإعلام إلى زمن وسائل الاتصال، ومن عصر الصحفي المناضل الملتزم  بقضية الرأي العام إلى زمن الصحفي المرتزق الخاضع لنظام الإثارة والتحريض.
والنتيجة الحتمية لكل هذا هي أن الوعي الزائف هو ما تنشره هذه الوسائل باعتباره فكرا سائدا وإجماعا لا يقبل النقاش وكأنه الحقيقة الثابتة الوحيدة. ما يخالف ذلك يقدم على انه شذوذ وخروج على النمط المعياري العام. أما من يطرح فكرا مخالفا أو يدافع عن رأي مختلف فيتم إقصاؤه  ونبذه بأن يقدم على أنه عدو للحقيقة ومناويء للإجماع وشاذ ينبغي تهميشه.
الذ ين ينتقدون النخبة ويتملقون الشعوب ويتوددون للجمهور وما يلائم مزاجه الخاضع للإعلان والتوجيه الخفي لقوى النفوذ المالي والسياسي والإيديولوجي إنما يفعلون ذلك بقصد تغييب الوعي والإساءة للعقل وتغليب منطق الكم( الأغلبية ) على النوعية (النخبة). كل ذلك من أجل الاستيلاء على وعي الجماهير في لحظة إغفاءة الوعي  بقصد تحويلها إلى قطيع قابل للتوجيه والتحكم عن بعد. تلك هي الوظيفة الجديدة للفضاء العمومي المدجن: لا يؤدي وظيفة النقد بل وظيفته التدجين. ذلك هو جوهر الانتقال من عصر وسائل الإعلام إلى عصر وسائل الاتصال.

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

0 التعليقات:

إرسال تعليق