حضرتك مثقف؟ التهمة جاهزة أفندم...



حضرتك مثقف؟ التهمة جاهزة أفندم...

الدكتور عاشور فني

بل تهمتان أفندم: التهمة الأولى أنك (نخبة) تعيش في برج عاجي منقطع عن العالم الملموس ولا تعنيك شؤون الأمة بل أنت تعاني من اغتراب عن ثقافتك وعن محيطك وأنك تابع للغرب والمدارس الفكرية والإيديولوجية (قرأت مؤخرا وثيقة تطالب بمنع العنصرية والإيديولوجية). وأما الثانية فأنت تابع وخادم ذليل لصاحب السلطان والجاه بل أنت راكع على بابه منتظر لصدقاته (بعضهم يقول لفضلاته). فإن سكت ولم تنبس بكلمة فعلق على رقبتك التهمة الأولى. وإن تكلمت وأبديت رأيا فتهمتك الثانية. وليكن في علمك:

أنت غير مهم ولا أحد سينتبه لك ولا شأن لك ما لم توافق على الخوار العام  الذي تردده وسائل الإعلام ويحفظه جميع المعلقين. مطلوب من المثقف أن يفكر بعقله لكن لحساب الذين لا يفكرون بل يكفرون التفكير. بل مطلوب منه أن يعير قلمه لمن لا يقرأ فيكتب له ما يناسب عقله الكسول وأهواءه المنحرفة. فإن لم توافق كتاباتك وآراؤك أهواءهم فأنت عميل لمن لا تعرف ولا تعرف لمن أنت عميل.
هذا عصر حركات الجماهير على النطاق العالمي يجري فيه تحليل السلوك   وتصميم العمليات الكبرى في المخابر المتخصصة. لكننا في بلاد الجهل المعمم يجري تعميم الرأي الفردي على أنه علم منزل من لدن عليم حكيم والدعاية المكشوفة على أنها الخبر اليقين. ومطلوب منك أن تصدق ما يصدقون ومن لم يقبل بذلك فقد خرج عن الملة وباء بالغضب الكبير.
وهناك ظاهرة جديدة : بعض المعلقين يدخلون النقاش وكأنهم يتسابقون للحصول على مقعد في الحكم. التنافس الانتخابي -الجديد على سلوك الناس في هذه البقعة من الأرض -جعل النقاش الفكري مستحيلا. فكل فكرة مهما كانت وجاهتها أصبحت تعتبر مجرد حيلة للدفاع عن طرف في الحكم أو لمنع طرف آخر من الوصول إليه. لم تعد للأفكار قيمة في حد ذاتها من حيث تماسكها أو وجاهتها بل ينظر إليها من حيث هي وسيلة للحصول على شيء أو لتحقيق هدف ملموس. يسمون هذا تفكيرا ويعتبرونه نباهة فكرية. وأصبح ينبري للدفاع عن الأفكار أو لمناقشتها من لم يتعلم قواعد التفكير أصلا. بعضهم يظن أن المسألة مجرد تشقيق للكلمات وإيراد للحجج مها كانت بعيدة عن الموضوع. ولو كان حججا باطلة. المهم أن تتوصل إلى تبليغ ما تريد قوله. صياح عام في ساحة السوق السياسية العامة: بضاعتنا أفضل من بضاعتكم.
لم يكن يهتم بمناقشة الأفكار إلا قليل من الناس عندما كان للنقاش معنى. أما وقد أصبحت السياسة مصدرا للإثراء والدين وسيلة للوصول إلى السلطة فقد تكاثر المناقشون "والمفكرون" . وصار من الأفضل السكوت لو كانت ذلك ممكنا. لكن المشكلة التي تواجهني -شخصيا- هي التالية: إن تكلمت أو كتبت عن قضايا نظرية كانت تهمتي أنني أعيش في برج عاجي وأنني -نخبوي - أما إن خضت في مناقشة الأحداث الجارية فأنا متهم مسبقا بالدفاع عن طرف سياسي لا شان لي به. وإن استخدمت مقولات الفكر السياسي الحديث فأنا متهم باللائكية والليبرالية والشيوعية  والإمبريالية وما جاورها من مترادفات  "الشتائم" الفكرية المبتكرة في زمن الفتاوى النفطية.
العلم لا ينتظر الجهلة ليأذنوا له بتطوير مفاهيمه ومصطلحاته. لكن من تصدى للسياسة فليكلف نفسه عناء امتلاك القدر الكافي من أدوات التحليل السياسي. السياسة ليست دروشة ولا رجما باغليب ولا نوايا طيبة. والخطاب السياسي خطاب عقلاني يحكمه العقل والمصلحة العامة والذوق السليم.  ومن غابت عنه تلك المعاني اخطأ في حق السياسة وفي حق من يدعي خدمة مصلحتهم. وأخطا في حق الفكر. في بداية التسعينيات كان بعضهم يوجه لنا تهمة "الفكرية" فيقول لك: أنت " فكري" يعني ان تحكم عقلك ولا تردد ما يقوله الزعيم. الديني خاصة. بعد ذلك ضاق المر كثير: أصبح التفكير كفرا. مات كثير من أصدقائنا وزملائنا وطلبتنا. رحمهم الله جميعا. ونفي آخرون ومازالوا منفيين. رد الله غربتهم.
 والآن في ظروف الربيع العربي هاهم يجيئون "زرافات ووحدانا" لميدان الفكر: مسلحين باليقينيات وبالأفكار الجاهزة. هل استعير استعارة يفهمها كثير منهم؟ إنهم جديدون في سوق الفكر يبيعون بضاعة نعرفها جيدا. لكن تلك التهمة تطورت قليلا: تابعوا النقاش السائد في ساحات الربيع العربي: قطعان كاملة من المواشي بدأت تبعبع بصوت مرتفع قليلا. مبروك. لكن الكارثة الجماعية ستكون أكثر مأساوية هذه المرة.
الجزائر لم تعد نموذجا وحيدا في المنطقة العربية. وتبين أن مصدر العنف ليس الجزائري المسالم بطبعه أو على الأقل  لم يعد وحده المسؤول عن الوضع "الدموي" بل إن الأوضاع حين تنفجر -في أي مكان- تجعل الناس جميعا في حاجة إلى اتخاذ القرار التالي: أن تكون القاتل أو الضحية. عندئذ يصبح العنف هو القانون الوحيد السائد في المجتمع. ذلك هو ثمن رفض استعمال العقل ورفض الاحتكام إلى صوت الحكمة. وعندها لا يختلف الأمر كثيرا. فسواء تم تغليب قوة القانون أو تغليب قانون القوة فالأمر سيان.
فلأكن واضحا:
السياسة ليست مشتقة من( ساس يسوس القطيع) بل هي سياسة العقل: رعاية الصالح العام أما الذين وصلوا متأخرين جدا فهم يريدونها بابا لخدمة مصالحهم ومصالح جماعتهم.  تلك هي سياسة الفساد العام. لذلك صار من الأفضل السكوت لو كان ذلك ممكنا. فقد فات أوان الاختيار بين الكلام والسكوت. لقد صار  الكلام  واجبا. حتى الذين استفادوا من النظم الاستبدادية نطقوا: بل إن منهم بعض سنونوات الربيع العربي...

وليكن واضحا:
ما أطرحه من أفكار هو محاولة لفهم الأحداث الجارية. وإبداء لرأي شخصي مجرد من كل غرض: لست مناصرا لتيار ضد تيار بل إن موقفي هو محاولة فهم كل الأحداث التي تحيط بي. لا لأبلغ هدفا ما بل لأكون في مستوى عصري.

وأصارحكم:
أرى أن كل هذه القوى المتصارعة على الحكم في بلدان الربيع العربي لا تملك حق الاستئثار بالسلطة كلا على حدة. نحن جميعا في مرحلة انتقالية. في الجزائر طالت المرحلة أكثر من ربع قرن الان.وما تزال معالم الطريق متغيرة. الطريق إلى الديمقراطية ما زال طويلا جدا. لا شيء ثابت. ستتحول الأوضاع الحالية ويصبح ما يجري الآن نسيا منسيا. لذلك ندعو إلى تغليب صوت العقل: القوة والقانون كلاهما في منزلة واحدة الآن: الاستقواء بالقانون مثل الاستقواء بالسلاح. لن يؤدي احدهما إلا إلى تأجيج العنف. القانون نفسه يتحول وسيلة لفرض الفساد. هناك قوة أخرى أعلى وأرفع تمنع من استعمال القوة واستعمال القانون معا. تلك هي السياسة.

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

0 التعليقات:

إرسال تعليق