التاريخ الثقافي والذاكرة المبتورة



حين نتأمل تاريخنا الثقافي بهدوء ندرك مدى البتر الذي أصيبت به الذاكرة الثقافية الجزائرية على مراحل متفرقة. فبقدر ما يتسع تاريخنا الثقافي ليشمل أزمنة ومناخات حضارية وثقافية متعددة تضيق الذاكرة الثقافية للجزائريين بانتقائية مقيتة ولأغراض سياسية دنيئة حتى لا تكاد تتذكر إلا  شذرات قليلة ولا تعترف إلا بوقائع نادرة ولا تذكر إلا أسماء عجزت الأيام عن طمس ضيائها التاريخي.

لقد تضافرت عوامل كثيرة وتحالفت أطراف عدة من أجل طمس التاريخ الثقافي الجميل والمتنوع لهذه الشعوب المترامية في التاريخ وفي الجغرافية الشمالية لأفريقيا. ومن  الملاحظ أنه منذ العصور القديمة كان الآخرون هم المعنيون بكتابة تاريخنا والأوصياء على تقييم ثقافتنا:المؤرخون اليونان والرومان في التاريخ القديم والرحالة العرب والمسلمون في التاريخ الوسيط وإيديولوجيو الاستعمار الفرنسيون والمستشرقون في التاريخ الحديث. وأخيرا إيديولوجو العصر الجديد: كل أحدث في تاريخنا الثقافي حدثا  بحجم أوهامه وبما يستجيب لأهدافه. والنتيجة: جهل مطبق بتاريخنا الثقافي مع تشويه في تركيبة الذات وشعور عميق بالدونية الثقافية إزاء الشرق والغرب وملامح مترسخة من كره الذات وعشق الآخر.
ورغم القيم التي زخرت بها الثقافة الوطنية عبر التاريخ وتجلت من خلال أحداث وأسماء ووقائع فإن  التاريخ الثقافي للجزائر يبدو فقيرا جدا باستثناء ذلك التمجيد-المفرط ربما- الذي حظيت به فترة حرب التحرير المجيدة بالقيم الأصيلة التي تمثلها - من حب الحرية والتضحية بلا حدود من أجل صنع المصير الجمعي الذي يحفظ مصير كل فرد وهي القيم التي نقلت بغموض شديد إلى الجيل الجديد مخلوطة بالوقائع العسكرية والمناورات السياسية بحيث تغرق القيم الثقافية في خضم الأحداث الزاخرة.
والأخطر من ذلك أن فترات كاملة قد محيت من تاريخنا الثقافي رغم أن التاريخ السياسي يوردها باحتشام مثل الفترة النوميدية والفترة الرومانية  في مقابل التركيز على الفترة الإسلامية وخاصة الفترة العثمانية. والمسؤولية مشتركة بين أطراف عدة. فطمس التاريخ الثقافي جريمة متعددة الأطراف. وهنا يمكن إبداء ملاحظات سريعة:
1) كان المؤرخون القدامى يعتبرون المنطقة مجال للبرابرة الذين لا حظ لهممن الحضارة والعمران ولذلك لم يهتموا بهم إلا باعتبارهم موضوعا لبسط سلطة إمبراطورياتهم المتحضرة. والإشارات التي أوردها المؤرخون اليونان والرومان القدامى وفي الكتب المقدسة هي بمثابة هوامش بسيطة في كتاب الإنسانية. أما الثقافة والفكر فلم تكن مما ينتظر من "متوحشين" لا يحسنون غير القتال ولا يصلحون إلا جنودا مرتزقة في جيوش الإمبراطورية الجرارة. لم يكن يلفت انتباههم إلا القصص المثيرة التي تقف في مجه تحقيق رغبات الحكام باسم الإمبراطورية.
2) أما المؤرخون المسلمون القدامى فقد اهتموا بالمنطقة باعتبارها امتدادا إمبراطوريا يبين "نجاح" "سياسات الفتح" التي مارسها حكام  المسلمين في المشرق. وقلما انجد اهتماما بتاريخ المنطقة الثقافي أو السياسي وبالقيم التي رسخت في هذا الديار. ويكاد الموقف هنا يشبه موقف المؤرخين الاستعماريين اللاحقين الذين اعتبروا المنطقة فراغا دائما جاء الاستعمار ليملأه. إن النظرة الاستعلائية تظهر في تصورات المؤرخين الذي حشوا كتاباتهم بالخرافات حول سكان المنطقة (نقد ابن خلدون للمسعودي مثلا) وهو موقف لا يختلف عن موقف الحكام في المشرق من شعوب المنطقة (انظر رسالة إلى هشام إلى عامله بإفريقية وغيرها كثير).
3) اهتم المؤرخون الفرنسيون بالفترة الرومانية وأبرزوها باعتبارها مبررا لاستعمار فرنسا للمنطقة معتبرين ذلك استمرارا لوجود الرومان القديم بالمنطقة. وهكذا تم التنقيب عن الآثار الرومانية وتأسيس متاحف لها في حين جرى طمس الفترات السابقة (النوميدية) واللاحقة (الإسلامية). وقد كشفت الأشغال الجارية في ساحة الشهداء بالجزائر العاصمة أن طبقات عديدة من الآثار تم طمسها في هذا المنطقة من اجل طمس آثار الجرائم الاستعمارية التي طالت مدينة الجزائر وغيرها من الحواضر والعواصم. إن جريمة الاستعمار الثقافية أخطر من جرائمه الاستعمارية البشعة. فقد أراد إحلال هويته محل الهوية الخاصة بهذه البلاد.
4) اهتمت الكتب الرسمية والبحوث الجارية بالفترة الحديثة من تاريخ الجزائر وركزت على التاريخ السياسي والعسكري والوقائعي من أجل الرد على المدرسة الاستعمارية ولذلك فقد انتهجت نهجا انتقائيا يؤيد ما يرد على التاريخ الاستعماري ويهمل- إن لم يحاول طمس- ما لا يخدم الغرض. لقد كانت هناك دعوات لكتابة تاريخ البلاد حسب "رؤية وطنية" وهذا يحمل موقفا في التاريخ وموقفا منه ايضا. وقد رأينا بعض المؤرخين الكبار يحجمون عن الخوض في مسائل تاريخية لأسباب سياسية.
5) وفي الماضي القريب نشأت حركات ثقافية علمانية وإصلاحية دينية منذ الاستقلال لكن ما أن انفتحت الساحة السياسية للتعددية الحزبية حتى انفجرت تلك الحركات شيعا وأحزابا سياسية يدعو كل منهم بدعوة مخالفة في الاتجاه لكنها تبتغي تحقيق نفس الهدف: الوصول إلى السلطة. هكذا أصبحت الثقافة ضحية للطموحات السياسية مرة أخرى: لم تعد الثقافة انشغالا قائما بذاته بل صارت ذريعة لمن أعوزته الوسائل والبرامج السياسية التي تجتذب جمهور الناخبين. وهكذا أصبحت الحركات السياسية تتوسل الثقافة لا لتبليغ فكرتها أو برنامجها بل لاستمالة الناخبين. ولم يتورع هؤلاء الميكيافيليون عن إدخال هوية الجزائري ودينه ولغته إلى صناديق الاقتراع. فبعد  أكثر من أربعة عشر قرنا من  الإسلام والعربية وجد الجزائري نفسه مدعوا للتصويت على أنه "مسلم" وبعد ألاف السنوات من الوجود وجد نفسه مدعوا لاختيار هويته على أنه جزائري. أي بؤس هذا ؟
وليت الأمر توقف عند هذا الحد. فقد أصبحت السلطة نفسها تجاري هؤلاء المشعوذين السياسيين ودخلت في لعبتهم القاتلة: المساومة على الهوية والمعتقد والمصير المشترك من أجل البقاء في الحكم.
ورغم أن كثيرا من الوثائق الضرورية للكتابة التاريخية الرصينة ما تزال متناثرة في أنحاء شتى من المعمورة وما يزال أرشيف الفترة العثمانية والاستعمارية محتجزا  في اسطنبول أو في إكس ان بروفانس فهناك  دعوات ملحة إلى تسجيل الوقائع وتسجيل الشهادات في انتظار توفر الشروط الضرورية لكتابة التاريخ السياسي والاجتماعي والمؤسساتي. لكن التاريخ الثقافي ما يزال بعيدا عن الاهتمام ما عدا  ذلك المشروع الفذ الذي كرس له المرحوم أبو القاسم سعد الله جهوده وتوج بعشرة مجلدات ضخمة تعد  مقدمة للاهتمام بموضوع تاريخنا الثقافي. إن التاريخ الثقافي أحد نقاط ضعف الثقافة الجزائرية رغم  أنه من الغنى والتنوع بما يجعله أهم نقاط قوتها. لكن الجهل والسياسة الميكيافيلية جعلت الثقافة مزيفا دائما في هذه الديار. فقد صارت الثقافة احد المخاطر التي تتهدد البلاد.
ولننقل من الحاضر بعض التشوهات التي أصابت الذات من جراء الجهل بالتاريخ الثقافي لبلادنا. فما أن تكلم أحد المهتمين بتاريخ الجزائر الثقافي عن فترة ما قبل الإسلام حتى يشرع في سرد الوقائع المعروفة عن قبائل العرب وتاريخها مع قريش. وهي قبائل وثنية عاشت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام لا علاقة لها بهذه المنطقة وتاريخها وقيمها. فلماذا يحفظ بعضهم تاريخها عن ظهر قلب ولا يعرف شيئا عن تاريخ هذه المنطقة الذي لم يكن وثنيا على أية حال؟ لقد كان أسلافنا من المساهمين في التاريخ العالمي ولم يكونوا (قبائل متناحرة يأكل بعضها بعضا) بتعبير جعفر بن أبي طالب وهو يصف قبائل الجاهلية أمام نجاشي الحبشة طالبا اللجوء له ولأتباعه من المؤمنين.
وما أن تذكر اسما مثل أغسطين وهو فيلسوف ومصلح كبير حتى يسارع ذلك البعض إلى التبرؤ منه باعتباره يمثل ماضيا مرتبطا بالاستعمار الروماني. لكنك لو حدثته عن الحركة الدوناتية التي ناهضت أوغستين والرومان معا فستجده يجهل كل شيء.  
وهكذا تجد بعض شباب الجزائر اليوم لا يعرف شيئا من ماضي أجداه الإيماني المقاوم لكنه يعرف كل شيء عن ماضي قريش الوثني وربما يعرف أيضا ان أوغستين هو مصلح الكاثولوكية. وهو أمر كاف ليتبرأ منه وكأن "أوغستين" زعيم حزب  قدم ملفا وينتظر الاعتراف من هؤلاء الجهلة لكي يدخل التاريخ. هكذا يتم تشويه الذات واستبدال تاريخها بتاريخ مزيف ثم نطلب من الشباب أن يعيش عصره وأن يكون متوازنا في مواجهة أقوياء اللحظة التي صنعوا تاريخهم الرمزي الذي يعمر ذواتهم وفرضوه على غيرهم بوسائل حديثة تقف وراءها مراكز بحث ومؤسسات صناعية تعمل على تصنيع الأفكار وتعليب التفكير. إن هؤلاء الشباب ضحية سهلة لكل أشكال التضليل والتلاعب والتوجيه والاستعمال. فذلك الشاب الذي يرى ماضيه في شبه الجزيرة -لأنه يجهل ماضيه المحلي وربما يحتقره- سيقف بسهولة في صف الدعوات التي تجنده للحرب في الشام أو في أفغانستان وقد تصل إلى تجنيده لارتكاب مجازر في بلاده وضد أهله وهو يتوهم أنه يعيد تاريخ الفتح الإسلامي ويقيم دولة وهمية تمتد من المشرق إلى المغرب تحت راية يتلألأ فيها سيف الفتح المجيد. إن عطب الذاكرة يولد عطب الذات ويترتب عن ذلك عطب السياسة.
إن الإنسان في هذه الديار يعيش غربة الحاضر وغربة التاريخ. فغربة الحاضر تتجسد في بعده عن تسيير شؤونه السياسية بسبب الاستبداد السياسي. وغربة التاريخ تتمثل في أنه يعيش تاريخا غير تاريخه. ويمعن السياسي في استعمال غربة التاريخ سياسيا ليستمر في استبداده. كيف يمكن إذن للإنسان في هذه الديار أن يعود للفعل والإبداع والتحرر وهو يرزح تحت أوهام شوهت ذاته وتاريخه وفكره وصورت له العالم على غير ما هو عليه؟ كيف يمكن لكائن أن يتحرك ويترك أثرا في المكان وفي الزمان -أي أن يبدع- وهو مبتور الذاكرة ومسلوب الإرادة؟
الإبداع-أي إبداع- ولا سيما الإبداع في التاريخ ممكن  فقط حين نتشبع بذاتنا ونحمل كل جذورنا ونندفع بكل قوة على ارض المستقبل.

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

0 التعليقات:

إرسال تعليق