فلسفة العصر الجديد



الدكتور عاشور فني

فرنسا لم تتخلَّ عن وضع البلد المستعمِر فهل تخلت المستعمرات عن وضعها؟ لقد غير الاستعمار من شكله أما جوهره فلا يزال ماثلا للعيان. فبعد الإلحاق العسكري المباشر قبل فترة الاستقلالات الوطنية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ظهرت أشكال أخرى من الاستعمار غير المباشر ترعاه مؤسسات وتسيره هيئات معروفة مالية ونقدية واقتصادية وعسكرية تحت سيادة الدول الكبرى وتمثله سياسات طبقت تحت مسميات مختلفة:الانفتاح واقتصد السوق وإعادة الهيكلة والاستثمار المباشر والشراكة وغيرها.أما في الآونة الخيرة فقد ظهرت نزعة جديدة: الودة إ لى سياسات الإلحاق المباشر بأساليب جديدة: القوانين والنصوص الملزمة للآخرين أو الاستفتاء على استقلال الأقاليم المستقلة. حالتان توضحان فلسفة العصر الجديد كما تبدو من سلوك فرنسا المعاصرة: قانون 23 فبراير 2005 واستفتاء جزيرة مايوط.

قانون23 فبراير 2005
في 23فبراير 2005 أصدر البرلمان الفرنسي قانونا يمجد- رسميا- المرحلة الاستعمارية ويعلن (المادة1) عن عرفان الأمة الفرنسية للنساء والرجال الذين ساهموا في المهمة المنجزة في "الولايات" السابقة في الجزائر وتونس والمغرب والهند الصينية(الفتنام) والأقاليم التي كانت خاضعة للسيادة الفرنسية. أما المادة الرابعة منه فتذهب إلى أبعد من ذلك فهي تنص على أن تتكفل البرامج المدرسية بمهمة (الاعتراف بالدور الإيجابي لحضور فرنسا في ما وراء البحار. بل يلزم التاريخ بمهمة تمجيد الجنود الفرنسيين المنحدرين من تلك المناطق ويخصهم بما هم أهل له من تقدير. وهذه الصيغة تحيل مباشرة إلى الأقدام السوداء وإلى "الحركة" أي الجزائريين المتعاونين مع العدو الفرنسي أثناء الحرب.وقدأ ثارت هذه المادة زوبعة في الأوساط الثقافية والسياسية لأنها تكرس نظرة حزبية للتاريخ تفرضها على الأجيال اللاحقة واعتبرت المادة تدخلا سافرا في قضية هي من اختصاص المؤرخين لا السياسيين. وقد تم ديل الفقرة الثانية من المادية لأنها تمس بحرية المؤرخين لكن ظلت المادة كما هي: تعتبر ما جرى في الزائر (مجرد) حوادث داخلية في إقليم فرنسي لم يعد تابعا للسيادة الفرنسية. ففي هذه المادة حط من شأن كل الدول المستقلة. لا نستغرب ذلك إذا عرفنا أن من قدم مشروع القانون ودافع عنه أمام البرلمان الفرنسي هو وزير قدماء المحاربين في حكومة شراك وهو أحد الحركة المعروفين: حملاوي مشاكرة. فهو ضابط في الجيش الفرنسي من ناحية سق أهراس بالجائر، أبوه ضابط في الجيش الفرنسي أيضا مات إثر جروح بليغة أصيب بها في حرب الريف بالمغرب ولحملاوي هذا ابن هو ضابط في الجيش الفرنسي حاليا. هذه الشحنة من الحقد على البلدان المستقلة لا يحملها إلا من تعنيه مباشرة وبشكل شخصي. لكن المسألة ليست شخصية بل تتعلق بسياسة دولة هي الدولة الفرنسية التي لم تتخل يوما عن  وضعها كبلد مستعمر وخاصة عندما يتعلق الأمر بالبلدان الإفريقية. يستوي في ذلك الديغوليون واليمين المتطرف والاشتراكيون مع تغير طفيف في الأدوار. فقد كان اليمينيون دائما أصحاب "المبادرات الاستمارية الإيجابية" أمااليساريون فقد كانوا دائما"أفضل من يسير آثار تلك المبادرات وانعكاساتها. وفي ما يتعلقبالجزائر باذاتكان اليسار الفرنسي اكثر تعصبا فيسياسته الاتعماية مناليمين الليبرالي على مر التاريخ الاستعماري.
وهكذا  اعترف رئيس المجموعة البرلمانية الاشتراكية بعد- أن صادق على النص القانوني الممجد للاستعمار بأنه كان خطأ سياسيا جسيما بسبب "غفلة" الاشتراكيين. أما المدافعون عن المادة الرابعة فهم يرون أنها تضع بعض التوازن في تدريس التاريخ الاستعماري باعتباره يحمل جانبا إيجابيا إضافة إلى الجانب السلبي المتمثل في العنف. لكن الغريب أن فرنسا الرسمية لا تقبل من سياسييها أن يصرحوا أصلا بهذا الجانب السلبي في تاريخهم. ذلك أن فرنسا لم تتخل أصلا عن تاريخها الاستعماري  بل أثبتت أنها مستعدة للعودة إلى الواقع التي تركتها كلما سنحت الفرصة.

حالة جزيرة مايوط: استفتاء على أرض مستقلة
سأكتفي بهذه الحالة التي تمثل أحسن تمثيل هذا الموقف:الانقضاض للعدة إلى وضع البلد المستعمر عند أول فرصة بل العملعلى توفير كل الشروط لخلق الظرف الملائم:حالة جزيرة مايوت من جزر القمر. فقد عملت السلطات الفرنسية على إلحاق هذه الأرض بفرنسا من كل النواحي : التركيبة البشرية والقواعد لعسكرية والتجهيزات الاجتماعية بحيث أصبحت مقرا للجالية الفرنسية المقيمة هناك. وعند إجراء الاستفتاء لاستقلال جزر القمر(22ديسمبر 1974) رفضت هذه الجزرة الاستقلال. استمرت دولة جزر القمر في المطالبة بالجزيرة فأعيد الاستفتاء بعد عامين (8 فبراير 1976)ورفضت الجزيرة الاستقلال بنسبة  99.4 في المائة من الأصوات. وفي عه ساركوزي اجري استفتاء آخر ينهي مطالبة جزر القمر: استفتاء على الانضمام إلى فرنسا فتحقق له ذلك بنسبة 95.2 بالمائة في استفتاء جرى في 29 مارس2009. إنه عودة للاستعمار بالأساليب الديمقراطية وبصفة إلحاق نهائي غير قابل للتراجع حيث أصبحت هذه الجزيرة تابعة إداريا لفرنسا ابتداء من تاريخ 31 مارس 2011. هكذا إذن سمحت فرنسا لنفسها بإعادة الاستفتاء على الالتحاق بفرنسا على أرض سبق الإعلان عن استقلالها حسب لائحة الأمم المتحدة رقم 3385 المؤرخة في 12 نوفمبر 1975. وما يزال الاتحاد الإفريقي والجمعية العامة للأمم المتحدة يساند  جزر القمر في مطالبتها بالجزيرة. فبمجرد أن سنحت الفرصة أعادت فرنسا الاستفتاء على الاستقلال. وهي مستعدة للعودة باستفتاء أو بغير استفتاء كما وقع في دولة أخرى حين تدخلت قوتها لإجلاس لحن واطارا على كرسي الحكم أثناء انشغال العالم بتدخل الناتو في ليبيا. وها هي تعيد المحاولة في شمال مالي وقد نجحت في "إقناع الولايات المتحدة بإصدار قرار من مجلس الأمن يسمح بالتدخل في شمال مالي أثناء احتفال الجزائريين ببابا نوال هولاند في تلمسان.  لقد ابتلع الجزائريون الطعم بسهولة ويسر. بل كانوا يقومون بحركاتهم المضحكة أمام أعين هولاند لمندهش من استمرار وضع "المتسعمرين" الذي تفنن بعض الجزائريين والجزائريات بإظهاره في المبالغة بالرقص والبارود وتقبيل الأيادي.
بعد الذي رأيناهفي ه الزيارة لا نستبعد أن تعيد فرنسا الاستفتاء على استقلال كثير من الدول. الاستفتاء موجه للشعوب أما الحكومات والمسؤولون فما زالوا تحت الاحتلال... وهم يضمنون نجاح الاستفتاء...

رد على صديق يعاتبني على اتخاذ موقف
أفهم آلامك يا صديق ففيها بعض آلامي أيضا. تعرف قصتي مع الصحافة في عهد الرصاص وكيف اصطدمت بأحد باروناتها الذين يقرأ لهم الجزائريون اليوم بإعجاب. لكن ذلك لا يبرر أن أغمض عينيّ وأتوقف عن التفكير ولن يثنيني عن التمييز بين الحقيقة والخيال. فرنسا التي تحلم بها عادلة نقية إنسانية غير موجودة الآن. الاشتراكيون -مثل اليمينيين- يسيرون عهدتهم بفاسديهم ومفسديهم. فلنا مفسدونا ولهم مفسدوهم وبعض الشر أهون من بعض. لكن فساد أهلنا لا يسوغ القول بأن الآخرين بفسادهم أصبحوا أصدقاء وأن العداوة انتهت. هذا أيضا مضحك. القضايا ليست شخصية ولا تتعلق بشخص الرئيس أو بضيفه أو بمترشح فاسد. نظام الفساد يحتاج إلى وقفة خاصة : فقد انتقلنا من النظام الفاسد إلى نظام الفساد(عد إلى ما نشرته في جوان 2012). لست مندهشا مما يجري ولا ثائرا ولا مبررا. أنا أنظر بكل برود حولي. بل بقسوة : ما نراه الآن هو جزء صغير مما يشكل واقعنا. فساد الشعب لا يقل عن فساد الحكام. ذلك هو نظام الفساد. الناس لا يرفضون الفساد بل يطالبون بنصيبهم منه. الفساد نعمة لمن لا يؤمن بقيمة العمل. فضع نفسك حيث تشاء. هناك من استعان بفرنسا ليزيل نظام الحكم. تابع المسلسل لتعرف النهاية. أما أنا فقد رأيت خاتمة للمسلسل في حالة جزيرة مايوت: نبدأ بالشراكة وبالاستثمار المباشر وتسهيل التنقلات وتعديل نظام التعليم وتعميم الفرنسية والإعانات ثم نعيد الاستفتاء بعد 25 سنة: ذلك ما يراهن عليه العصر الجديد. مهمة مفسدينا وفاسدينا في المستويات هو إنجاح ذلك الاستفتاء الذي سيجري بعد ربع قرن.

ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

0 التعليقات:

إرسال تعليق